فصل: من فوائد الشوكاني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله: {وَقَالَتِ اليهود} وما بعده فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى، ويتضمن ذلك إثباته لنفسها تحجرًا لرحمة الله سبحانه.
قال في الكشاف: إن الشيء هو: الذي يصح ويعتدّ به، قال: وهذه مبالغة عظيمة؛ لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهكذا قولهم أقلّ من لا شيء.
وقوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} أي التوراة، والإنجيل، والجملة حالية، وقيل: المراد جنس الكتاب، وفي هذا أعظم توبيخ، وأشدّ تقريع؛ لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة، والتكلم بما ليس عليه برهان هو: وإن كان قبيحًا على الإطلاق لكنه من أهل العلم، والدراسة لكتب الله أشدّ قبحًا، وأفظع جرمًا، وأعظم ذنبًا.
وقوله: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} المراد بهم: كفار العرب، الذين لا كتاب لهم قالوا: مثل مقالة اليهود اقتداءً بهم؛ لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم.
وقيل: المراد بهم طائفة من اليهود، والنصارى، وهم الذين لا علم عندهم، ثم أخبرنا سبحانه بأنه المتولى لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه، فيعذب من يستحق التعذيب، وينجي من يستحق النجاة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة} الآية، قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} قال: أمانيّ يتمنونها على الله بغير حق: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} قال: حجتكم: {إِن كُنتُمْ صادقين} بما تقولونه أنه كما تقولون: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يقول: أخلص لله.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله: {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} قال: حجتكم، وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} قال: أخلص دينه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل، فقال له رجل من أهل نجران: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى، وكفر بالتوراة، قال: فأنزل الله في ذلك: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيء وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيء وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} أي: كلّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: هم: أمم كانت قبل اليهود والنصارى.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: هم العرب قالوا ليس محمد على شيء. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ مِنْهُمُ- الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى- فَقال: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
هَذَا بَيَانٌ لِحَالَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، مَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ يَعْرِفُونَهَا:
أَمَّا الْأُولَى فَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ بَدِيعٌ غَيْرُ مُخِلٍّ. وَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا يُنَافِي انْسِحَابَ حُكْمِهَا عَلَى الْآخِرِينَ، أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُرْوَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ فَقَالَ: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وَالْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ وَلَا يُدْرِكُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ نَاطِقٌ بِأُمْنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَمَانِيَّ مُتَعَدِّدَةً هِيَ لَوَازِمٌ لَهَا، كَنَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَكَوُقُوعِ أَعْدَائِهِمْ فِيهِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَمَانِيَّ بِالْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ: تِلْكَ أُمْنِيَّتُهُمْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذَا الْوَجْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُنَاكَ وُجُوهٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ بِتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ لِقَوْلِهِ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {وَدَّ كَثِيرٌ} وَقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ أَمْثَالُ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَقَرَّرَ لَنَا قَاعِدَةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ بِدَعْوَى يَنْتَحِلُهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ يُؤَيِّدُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي خُوطِبَتْ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً لِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِأَدِلَّتِهَا وَبَرَاهِينِهَا؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِتَقْلِيدِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا بُرْهَانَهُ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، سَوَاءً عَرَفُوا لِمَاذَا أُمِرُوا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [12: 108] وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [21: 22] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ نَفْيِ الْمَضَرَّاتِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَنَافِعِ.
عَلَّمَ الْقُرْآنُ أَهْلَهُ أَنْ يُطَالِبُوا النَّاسَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمْ عَلَى سَوَاءِ الْمَحَجَّةِ. وَجَدِيرٌ بِصَاحِبِ الْيَقِينِ أَنْ يُطَالِبَ خَصْمَهُ بِهِ وَيَدْعُوَهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ، قَالُوا بِالدَّلِيلِ وَطَالَبُوا بِالدَّلِيلِ وَنَهَوْا عَنِ الْأَخْذِ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ الطَّالِحُ فَحَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْلِيدِ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَيْرِ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ، حَتَّى كَأَنَّ الْإِسْلَامَ خَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، أَوِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، وَصَارَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ بِالْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، وَعَلَّمَ النَّاسَ اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ، مَعَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ، يُطَالِبُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الدَّلِيلِ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمُ الْأَخْذَ بِقَالَ وَقِيلَ، وَيَا لَيْتَهُ كَانَ الْأَخْذُ بِقَالَ اللهُ، وَقِيلَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَخْذُ بِقَالَ فُلَانٌ وَقِيلَ عَنْ عِلَّانٍ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [53: 23].
قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {بَلَى} وَهِيَ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِإِثْبَاتِ نَفْيٍ سَابِقٍ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِهِمْ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ}... إِلَخْ، أَيْ بَلَى إِنَّهُ يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ هُودًا وَلَا نَصَارَى؛ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللهِ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِشَعْبٍ دُونَ شَعْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُهَا وَيَعْمَلُ لَهَا عَمَلَهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}. إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ: هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [1: 5] وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَبَّرَ هُنَا عَنْ إِسْلَامِ الْقَلْبِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِتَوْجِيهِ الْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [6: 79] لِأَنَّ قَاصِدَ الشَّيْءِ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ لَا يُوَلِّيهِ دُبُرَهُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ إِلَى شَيْءٍ لَهُ جِهَةٌ تَابِعًا لِقَصْدِهِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ، وَجَعَلَ التَّوَجُّهَ بِالْوَجْهِ إِلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْقِبْلَةُ بِأَمْرِ اللهِ مُذَكِّرًا بِإِقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ الَّذِي لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، فَالْإِنْسَانُ يَتَضَرَّعُ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى بِوَجْهِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ يَظْهَرُ أَثَرُ الْخُشُوعِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ تَوْحِيدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْعَمَلِ، بِأَلَّا يَجْعَلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وُسَطَاءَ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَرْءُ مُسْلِمًا.
ذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيْمَانَ الْخَالِصَ وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ الْوَعْدَ بِالْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَاسْتِحْقَاقَ الْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَيَّدَهُ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، فَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ تَقْرِنُ الْإِيْمَانَ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [4: 123، 124] وَهَذَا فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، نَفَى أَمَانِيَّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا نَفَى أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَ أَمْرَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ مَنُوطًا بِالْإِيْمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا. وَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [21: 94] الْآيَةَ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لِلْمُسْلِمِ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَالْمُحْسِنِ فِي عَمَلِهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ، نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ الَّذِي يُرْهِقُ الْكَافِرِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْحُزْنَ الَّذِي يُصِيبُهُمْ فَقَالَ: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَحْزَانَ تُسَاوِرُ الَّذِينَ لَبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَسَاءُوا أَعْمَالَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ.
تَرَى أَصْحَابَ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ دَائِمٍ مِمَّا لَا يُخِيفُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِثُبُوتِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الْقَاهِرَةِ لِكُلِّ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْهُ عَمَلٌ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبَبِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَهُ، يَسْتَخْذُونَ لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَيَرْتَعِدُونَ مِنْ حَوَادِثِ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيبَةِ، إِذَا لَاحَ لَهُمْ نَجْمٌ مُذَنَّبٌ تَخَيَّلُوا أَنَّهُ مُنْذِرٌ يُهَدِّدُهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْفَسَادِ تَوَهَّمُوا أَنَّهَا مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ الْعِبَادِ، وَتَرَاهُمْ فِي جَزَعٍ وَهَلَعٍ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ، وَنُزُولِ الْكَوَارِثِ، لَا يَصْبِرُونَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الرَّخَاءِ وَالسَّرَّاءِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [70: 19- 23] هَذِهِ حَالُ مَنْ فَقَدَ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ وَحُرِمَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [41: 16] وَإِنَّمَا كَانَ صَاحِبُ النَّزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي خَوْفٍ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُ، وَحُزْنٍ مِمَّا يَنْزِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا اخْتَرَعَهُ لَهُ وَهْمُهُ مِنَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ الَّتِي يُحَكِّمُهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُهَا حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِدُ عِنْدَهَا غَنَاءً إِذَا هُوَ لَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَا هُوَ مِنْ سُلْطَتِهَا عَلَى يَقِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الظَّانِّينَ أَوِ الْوَاهِمِينَ.
وَأَمَّا ذُو التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ قَدْ هَدَى الْإِنْسَانَ إِلَى السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا فِي أَفْعَالِهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ، بَحَثَ فِي سَبَبِهِ وَاجْتَهَدَ فِي تَلَافِيهِ مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا اللهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَا مَرَدَّ لَهُ، سَلَّمَ أَمْرَهُ فِيهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، فَلَا يَحَارُ وَلَا يَضْطَرِبُ؛ لِأَنَّ سَنَدَهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، وَالْقُوَّةَ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا كَبِيرَةٌ لَا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِ سَبَبُ الْحُزْنِ أَوْ عَرَضَ لَهُ مُقْتَضَى الْخَوْفِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُمَا إِلَّا كَمَا يُطِيفُ الْخَاطِرُ بِالْبَالِ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الزَّوَالُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [13: 28] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْأَمَانِيُّ وَلَا يَخْدَعَنَّكُمُ الِانْتِسَابُ الْبَاطِلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذِهِ هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَسْلِمُوا وُجُوهَكُمْ لِلَّهِ تَسْلَمُوا، وَاعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ تُؤْجَرُوا، وَقَدْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَهُ أَجْرُهُ} مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ، وَجَمَعَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}... إِلَخْ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا.
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَزْكِيَةَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَفْسَهُ، وَحُكْمَهُ بِحِرْمَانِ غَيْرِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُ ذَكَرَ طَعْنَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ خَاصَّةً فَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ، فَالشَّيْءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُتَحَقِّقُ، وَالِاعْتِقَادَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَا تُسَمَّى شَيْئًا، فَكَفَرُوا بِعِيسَى وَهُمْ يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ الَّتِي تُبَشِّرُ بِهِ، وَتَذْكُرُ مِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلَا تَزَالُ الْيَهُودُ إِلَى الْيَوْمِ تَدَّعِي أَنَّ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا يَأْتِ، وَتَنْتَظِرُ ظُهُورَهُ وَإِعَادَتَهُ الْمُلْكَ إِلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} مِنَ الدِّينِ حَقِيقِيٍّ يُعْتَدُّ بِهِ لِإِنْكَارِهِمُ الْمَسِيحَ الْمُتَمِّمَ لِشَرِيعَتِهِمْ، يَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أَيْ يَتْلُو كُلٌّ مِنْهُمْ كِتَابَهُ، فَكِتَابُ الْأَوَّلِينَ التَّوْرَاةُ يُبَشِّرُ بِرَسُولٍ مِنْهُمْ ظَهَرَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِكِتَابِهِمْ، وَكِتَابُ الْآخِرِينَ الْإِنْجِيلُ يَقُولُ بِلِسَانِ الْمَسِيحِ: إِنَّهُ جَاءَ مُتَمِّمًا لِنَامُوسِ مُوسَى، لَا نَاقِضًا لَهُ، وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ، فَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، تَرَكَ بَعْضُهُمْ أَوَّلَهُ، وَبَعْضُهُمْ آخِرَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ كُلِّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَالْكِتَابُ الَّذِي يَقْرَءُونَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ} أَيْ نَحْوَ ذَلِكَ السُّخْفِ وَالْجُزَافِ {قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، تَعَصَّبَ كُلٌّ لِمِلَّتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا جِنْسِيَّةً، وَزَعَمَ أَنَّهَا هِيَ الْمُنْجِيَةُ لِكُلِّ مَنْ وُسِمَ بِهَا وَرَضِيَ بِاسْمِهَا وَلَقَبِهَا، وَالْحَقُّ وَرَاءَ جَمِيعِ الْمَزَاعِمِ لَا يَتَقَيَّدُ بِأَسْمَاءٍ وَلَا أَلْقَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيْمَانٌ خَالِصٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى هَذَا لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَاخْتَلَفُوا فِي أُصُولِهِ وَلَكِنَّهُمْ تَعَصَّبُوا وَتَحَزَّبُوا لِأَهْوَائِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي آرَائِهِمْ {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا عَلَيْهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا تَعَالَى هُنَا بِمَاذَا يَحْكُمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهِمْ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ فِي النَّعِيمِ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَيُلْقِي بِأَهْلِهِ فِي الْجَحِيمِ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ. وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ تَمَارَوْا مَعَ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا قَالَ فِي إِنْكَارِ حَقِيقَةِ دِينِ الْآخَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ فَهْمَ الْآيَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَالْآيَةُ تَحْكِي لَنَا اعْتِقَادَ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْأُخْرَى سَوَاءً قَالَ ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. عَلَى أَنَّ مَا يُرْوَى فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ تَارِيخِ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عِنْدَنَا غَيْرُ كَافٍ فِي ذَلِكَ، فَلابد لَنَا مِنَ الْبَحْثِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ الْمِلَلِ وَالْأُمَمِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْقُرْآنُ؛ لِأَجْلِ أَنْ نَفْهَمَهُ تَمَامَ الْفَهْمِ وَنَعْرِفَ مَا يَحْكِيهِ عَنْهُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشُّئُونِ وَالْأَعْمَالِ، هَلْ كَانَ عَامًّا فِيهِمْ أَوْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَأُسْنِدَ إِلَى الْأُمَّةِ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِرَارًا مِنْ إِرَادَةِ تَكَافُلِهَا، وَمُؤَاخَذَةِ الْجَمِيعِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاهِيَ عَنْهُ؟
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّ كِتَابَ الْيَهُودِ أَصْلٌ لِكِتَابِ النَّصَارَى، وَكِتَابَ النَّصَارَى مُتَمِّمٌ لِكِتَابِ الْيَهُودِ، قَدْ صَارُوا إِلَى حَالٍ مِنَ التَّهَافُتِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ لَا يُعْتَدُّ مَعَهَا بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَطَعْنُهُمْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيْمَانِ بِهِ لَا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِمْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ، بَلْ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَتَعَصُّبٍ لِلْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ وَالْآرَاءِ. فَإِذَا كَانَتِ الْيَهُودُ كَفَرَتْ بِعِيسَى وَأَنْكَرَتْهُ- وَهُوَ مِنْهُمْ- وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ لِإِعَادَةِ مَجْدِهِمْ وَتَجْدِيدِ عِزِّهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَارَى قَدْ رَفَضَتِ التَّوْرَاةَ وَكَفَّرَتْ أَهْلَهَا- وَهِيَ حُجَّتُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ- فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ شَعْبٍ غَيْرِ شَعْبِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ لِشَرَائِعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ جِنْسِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَهُمْ؟!.
وَفِي الْآيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، مُؤَيِّدٌ لِمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تُطَالِبُ الْمُدَّعِيَ بِالْبُرْهَانِ، وَإِلَى النَّعْيِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِآرَائِهِمْ، الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، وَإِلَى التَّحَرِّي فِي الْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ يَعْتَقِدُ الْحَاكِمُ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ وَالتَّحَرِّي وَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الْخَطَأِ وَالتَّزْيِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَسَاهُ يَكُونُ مَعَهُ صَوَابًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ نَاطِقٌ بِإِنْكَارِ حُكْمِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا فَصْلٍ وَلَا فُرْقَانٍ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِ حَقٌّ ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةِ وَالْبِدَعُ، وَعَرَضَ لَهُ التَّحْرِيفُ وَالتَّأْوِيلُ، فَتَجْرِيدُهُ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَعَصُّبًا لِلتَّقَالِيدِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، وَأَنَّى لِلْمُقَلِّدِينَ بِذَلِكَ؟ وَانْظُرْ كَيْفَ أَلْحَقَ التَّقْلِيدُ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالدِّينِ الْإِلَهِيِّ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ هَذَا مَا فَعَلَهُ التَّقْلِيدُ بِهِمْ، وَبِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ. اهـ.